مقالةٌ كتبتها عندما كنت في الصّف الثامن:
عندما نرجع بالذاكرة إلى التاريخ الغابر نرى مجد العروبة والإسلام في عالم كانت فيه بلادنا موطن التقنية والتقدُّم العلمي والتكنولوجي، ومركز إشعاع حضاري وثقافي وإنساني على العالم، ولكن.. ما الذي يمكن أن يفعله شخص وحيد وسط أمواج متلاطمة في بحر لا متناهٍ؟! إذا نظر في أيِّ اتجاه لم ير إلا زرقة البحر والسماء، تتقاذفه الأمواج من كلِّ جانب، وتأخذ به دون إرادة منه في كلِّ اتجاه.
إنها الصورة التي تخطر في بالي عندما تذكر كلمة "العولمة"، ذلك الغول الذي يريد أن يسيطر بقيمه على العالم، والمارد الذي يسعى لفرض إرادته ومُثُله وطريقة تفكيره وسلوكه على كلِّ أجناس البشر، في الاجتماع والاقتصاد، كما في التربية والسياسة والقيم والعادات، سلاحه في ذلك اعتداد بالنفس كبير، وثروة مالية هائلة، وقدرات اقتصادية عملاقة، ووسائل اتصال سريعة، وسيطرة سياسية لا متناهية...
لا ضير في العولمة إذا كانت تعني تبادل المعرفة وإغناء الثقافة باللقاء والحوار والتلاقي، لكنَّ المشكلة تكمن في الجشع وحبِّ الإنسان للسيطرة، فها هي أمريكا اليوم تسعى لامتلاك العالم من خلال فرض مشاريعها وسياساتها وثقافتها، مستعينة على ذلك بالتطور التكنولوجي والتفوُّق الاقتصادي والسياسي الذي تملكه، وهي تفعل كلّ ذلك لخدمة مصالحها ولو على حساب الآخرين..
لقد استطاعت أن تدخل علينا مخادع نومنا، تنشر قيمها وتعبث بعقولنا وتزيِّن لنا العادات والأفكار والسلوكيات التي تريد عبر الفضائيات والإنترنت..
ولكن.. ماذا يفعل العالم العربي في ظل العولمة وتفوُّق هذا الأمريكي؟! الواقع أمرُّ من أن تجسِّدَه الكلمات، فأمَّتنا بكلِّ أسف تقف مكتوفة اليدين أمام الغزو الحضاري الذي تواجهه، بل إننا نراها في كثير من الأحيان تخدم الغازي وتساعده في تحقيق مصالحه.. نعم.. نحن وبكلِّ أسف نعاني ضعفاً داخلياً يمنعنا من الوقوف ضدَّ هذا التيار الجارف، وتبعيَّة مهينة تفرض علينا الانقياد لأمواجه العاتية. نحن نعاني من ضياع الهويَّة في عصر مزدحم بالأفكار والإيديولوجيات والهويَّات، ولكننا لم نصل بعد إلى الذوبان في قيم الغربي الغازي، ولم نفقد بعد مقوِّمات العيش وأسباب الحياة، فلا زال فينا من يتمسك بثوابته ويحافظ على مبادئه، ويؤمن أنَّنا نملك حضارة عريقة يجب أن تسود وثقافة أصيلة يجب أن تجد من يرفع من شأنها وينشر قيمها في العالمين.
لقد عرفت الأمم من خلال قيمها، فلكلِّ شعب هويته الخاصَّة، ولكلِّ أمة عاداتها وثقافتها التي تميِّز أبناءها، فالهندي كما الصيني والياباني، أو الأوروبي والتركي والإفريقي، كلهم يملكون ما يميِّزهم عن غيرهم، وكذلك الأمَّة العربية التي تملك من قيم المروءة والشهامة والحفاظ على الأسرة والشرف وحبِّ العلم والرغبة بالارتقاء وقبول الآخر ورفع مكانة الإنسان ما يجعلها مؤهلة لتأخذ دورها في مجتمعات القرن الحادي والعشرين.
ثقافتنا مهدّدة بالزوال والاندثار إذا لم ننهض من سباتنا ونعزم على العودة لأصالة مجدنا، نعم.. أمَّتنا مهدّدة بأن تبقى حبراً على ورق كتب التاريخ يقرؤها الجيل القادم ويتساءل عن أسلافه الذين لم يفرقوا فيما يأخذون عن الغرب بين ما يجب أخذه من تقدم علمي واختراعات، وبين ما يجب نبذه من عادات وتقاليد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يجب أن نفعله لنحافظ على هويَّتنا وثقافة أمَّتنا؟ هل ننغلق على أنفسنا ونبني عالمنا الخاص حتى نضمن عدم تداخل ثقافتنا مع الآخر وضياع خصوصياتنا أمام سطوة الغرب واستقواء أمريكا وأوروبا علينا؟ أم ننفتح فنذوب في عاداته لا تناسبنا وثقافات دخيلة تجعلنا نخسر هويتنا ونفقد هويّتنا؟!
الجواب الذي يجب أن نأخذه بقوة ومسؤولية هو أن الغلبة للأقوى، وأنَّ علينا الانغلاق لا يحلُّ المشكلة، كما أنَّ الانفتاح لا يشكِّل الحلَّ، وما علينا فعله هو الانفتاح دون ذوبان، هو ذلك الانفتاح المنضبط الواعي الذي يجعلنا نتفاعل مع المحيط فنأخذ من الآخر ما ينفع ويفيد، وننبذ منه ما يضرُّ، والذكي هو الذي يلين ثقافة العولمة لخدمة أمته ومجتمعه، فيرى في علوم العصر وتقنيات الغرب واختراعات البشر أدوات تخدم الإنسان فيأخذها ويطوِّرها، وينأى عن كل ما يهدد الهوية ويؤثر على خصوصية الثقافة من العادات والقيم والأخلاق والسلوك.
لا يمكن أن نهرب من العولمة في ظلِّ عالم الاتصال السريع وانتشار الإنترنت والفضائيات، وإذا كانت سنة الكون تؤكد سيطرة القوي فإن على العرب أن يدركوا أنه ليس أمامهم إلا خيار واحد هو أن يستيقظوا من غفلتهم ويستفيدوا من إمكانياتهم ليطوِّروا قدراتهم بأصالة لا تعني الإنغلاق وانفتاح لا يعني الذوبان، فبذلك نحافظ على ثقافتنا، ونحمي مجتمعنا، وننهض من كبوتنا، ونحقق ما تصبو إليه أمتنا.
You write big ideas little girl.
ReplyDelete